من أكبر خصائص شهر رمضان المبارك أنه حوى بين جنبيه ليلة القدر، تلك الليلة العظيمة التي لا تعادلها ليلة في الخصائص والفضل، إنها ليلة خصت بسورة كاملة في القرآن، ونوه القرآن بذكرها في قوله تعالى "إنا أنزلناه في ليلة مباركة" وبين فضلها العظيم في قوله تعالى "ليلة القدر خير من ألف شهر " وورد ذكرها في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، في مواضع عديدة، إنها ليلة حرص عليها الصالحون، وسعى لإدراكها المشمرون لطاعة الله، إنها ليلة يفتح فيها الباب، ويقرب فيها الأحباب، وفرصة لذوي العقول والألباب، فيها تغفر الذنوب والسيئات، وفيها تتنزل المغفرة والرحمات، عبادتها خير من عبادة ألف شهر، وقيامها سبب لمغفرة ما تقدم من المعاصي والسيئات، فهي أمنية العباد الطائعين، وأمل العائدين التائبين.
وجدير بالمؤمن أن يتعرف على خصائص هذه الليلة وبعض ما يتعلق بها.
فضل ليلة القدر
ورد النص الصريح من كتاب الله تعالى، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، يبين فضل ليلة القدر، وما حوته من ثواب جزيل لا يستطيع الإنسان حصره. فالله جل وعلا يقول في سورة القدر " ليلة القدر خير من ألف شهر" أي أن عبادة ليلة القدر، خير من عبادة ألف شهر، إذا أتقن الإنسان تلك العبادة، وجعلها خالصة لوجه الله تعالى، وعبادة ألف شهر تعني عبادة ثلاث وثمانين سنة تقريباً، ترى أي فضل وخير في هذه الليلة، ولولا أن الله جل وعلا أخبرنا بذلك لما كان يمكن للإنسان أن يستوعب ذلك الفضل. والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه" أخرجه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، ولذا نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم حرص على إدراكها، وسعى لها بجد واهتمام حتى أنه اعتكف من أجلها عشرين يوماً.
خصائص ليلة القدر
اختصت ليلة القدر بما لم تختص به ليلة من الليالي ونحن نذكر بعضاً من خصائصها إجمالاً فمنها: -
- أن الله أنزل فيها القرآن الكريم، الذي هو دستور هذه الأمة، وقد نوه إلى ذلك بقوله تعالى "إن أنزلناه في ليلة القدر " وقوله "إنا أنزلناه في ليلة مباركة
- "ن العبادة في ليلة القدر خير وأعظم عند الله من عبادة ألف شهر لمن جعلها خالصة لوجه الله تعالى.
- أن الملائكة تتنزل فيها بالرحمة والخير لعباد الله يقول سبحانه "تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر"
- أنها سلام وسلامة للعباد من العذاب والعقاب، لإقبالهم على الله جل وعلا بالعبادة والطاعة في هذه الليلة المباركة، وذلك إلى طلوع الفجر.
- أن الله أنزل في فضلها سورة كاملة تتلى إلى يوم القيامة.
- أن النبي صلى الله عليه وسلم حرص عليها وعلى إحيائها دون غيرها من الليالي - أن من قام هذه الليلة بأنواع العبادات والطاعات، إيماناً واحتساباً، غفر له ما تقدم من ذنبه.
وقت ليلة القدر
ليلة القدر في رمضان بلا ريب، وهي في العشر الأواخر بلا شك، وقد وردت عدة أحاديث تبين وتحدد وقت ليلة القدر، وآكدها ليالي الوتر من العشر الأواخر، وأكدها الليالي السابعة الباقية من شهر رمضان، وآكدها ليلة السابع والعشرين. هذا وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أريها ثم نسيها، ولعل ذلك لأمر أراده الله جل وعلا، لكي يقبل الناس على العبادة والطاعة، ويسعوا في تحريها خلال العشر الأواخر.
فقد روت عائشة رضي الله عنها قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاور في العشر الأواخر من رمضان ويقول: تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان. رواه البخاري ومسلم. وعن أبي سعيد رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاور في رمضان العشر التي في وسط الشهر، فإذا كان حين يمسي من عشرين ليلة تمضي، ويستقبل إحدى وعشرين، رجع إلى مسكنه،ورجع من كان يجاور معه، وأنه أ قام في شهر جاور فيه الليلة التي كان يرجع فيها، فخطب الناس، فأمرهم ما شاء الله، ثم قال: كنت أجاور هذه العشر، ثم قد بدا لي أن أجاور هذه العشر الأواخر، فمن كان اعتكف معي فليثبت في معتكفه، وقد أريت هذه الليلة، ثم أنسيتها فابتغوها في العشر الأواخر، وابتغوها في كل وتر، وقد رأيتني أسجد في ماء وطين " فاستهلت السماء في تلك الليلة فأمطرت فوكف المسجد في مصلى النبي صلى الله عليه وسلم ليلة إحدى وعشرين، فبصرت عيني، نظرت إليه انصرف من الصبح ووجهه ممتلئ طينا وماء. رواه البخاري ومسلم.
وروى ابن عمر رضي الله عنه أن رجالاً من أصاب النبي صلى الله عليه وسلم أروا ليلة القدر في المنام، في السبع الأواخر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر، فمن كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر. رواه البخاري ومسلم
ويرى بعض العلماء أن ليلة القدر لا تختص بليلة معينة في كل الأعوام بل إنها تتبدل وتتغير، وقد رجح هذا القول الإمام ابن حجر رحمه الله في فتح الباري شرح صحيح البخاري فقال: "أرجح الأقوال أنها في وتر في العشر الأخير وأنها تنتقل". والدليل على ذلك ما رواه عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: خرج النبي صلى الله عليه وسلم ليخبرنا بلية القدر فتلاحى رجلان من المسلمين فقال: خرجت لأخبركم بليلة القدر فتلاحى فلان وفلان فرفعت، وعسى أن يكون خيرا لكم، فالتمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة. أخرجه البخاري
وقوله في التاسعة والسابعة والخامسة مراده بهذه الأيام الباقية من الشهر كما جاء ذلك مبيناً في حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: التمسوها في تاسعة تبقى في سابعة تبقى في خامسة تبقى " رواه البخاري.
وأما ترجيح ليلة السابع والعشرين فلما رواه زر بن حبيش قال : سمعت أبي بن كعب يقول (وقيل له: إن عبد الله بن مسعود يقول: من قام السنة أصاب ليلة القدر) فقال أُبيّ رضي الله عنه: رحمه الله، أراد أن لا يتكل الناس، والذي لا إله إلا هو، إنها لفي رمضان - يحلف ما يستثني - ووالله إني لأعلم أي ليلة هي؟ هي الليلة التي أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقيامها، هي ليلة صبيحة سبع وعشرين وأمارتها أن تطلع الشمس في صبيحة يومها بيضاء لا شعاع لها. ورفع ذلك في رواية إلى النبي صلى الله عليه وسلم. أخرجه مسلم وغيره.
ما يقال فيها من الذكر
يستحب أن يقول المسلم في هذه الليلة ويكثر من قول اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني، وذلك لما روته عائشة رضي الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله أرأيت إن علمت أي ليلة ليلة القدر ما أقول فيها؟ قال: "قولي اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني" رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح. وينبغي أن نعلم أن هذه الليلة يشرع فيها العبادة بجميع أنواعها، من قراءة للقرآن، وصلاة وذكر وتسبيح وغير ذلك.
العشر الأواخر من رمضان
أما العشر الأواخر من رمضان فهي أيضا ذات فضيلة وميزة عن باقي الشهر فهي تزيد عليه في الفضل والثواب، ولذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يوليها عناية خاصة، فكان يجتهد فيها بالعبادة أكثر مما يجتهد في غيرها، حتى إنه كان من حرصه على أن تكون هذه الأيام أيام عبادة وطاعة كان لا يقترب من نسائه، بل يتفرغ لربه ويدعو أهله لذلك، ثم إنه صلى الله عليه وسلم انتهى اعتكافه إليها وكذلك أزواجه من بعده، وكذلك أصحابه رضوان الله عليهم كانوا يحرصون على هذه الأيام، وسار على نهجهم عباد الله الصالحون.
فقد ورد في فضلها عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر شد مئزره وأحيا ليله، وأيقظ أهله. رواه البخاري ومسلم
وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره. رواه مسلم وعنها أيضا قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يخلط العشرين بصلاة ونوم فإذا كان العشر شمر وشد المئزر. رواه أحمد. ف
هذه الأحاديث وغيرها تدل على أنه كان يجتهد فيها أكثر مما يجتهد في غيرها، وهذا شامل للاجتهاد بجميع أنواع العبادة، من صلاة وقراءة قرآن وصدقة وغيرها، وهذا لا ينافي ما في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما أعلمه صلى الله عليه وسلم قام ليلة حتى الصباح.
يقول فضيلة الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: لا تعارض بين حديث عائشة الأول والحديث الذي في صحيح مسلم وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحيي الليل كله في عبادة ربه من الذكر والقراءة والصلاة والاستعداد لذلك والسحور وغيرها، والذي نفته عائشة رضي الله عنها هو إحياء الليل فقط بالصلاة.
والشاهد أن على المسلم الحريص على اغتنام الفرص أن يعمر هذه الأيام بالطاعة والعبادة والتقرب إلى الله جل وعلا بجميع أنواع القربات، ولا يفوت هذه الفرصة فربما لا يدركها مرة أخرى، ثم إنها أيام قليلة عن قريب تنقضي وتنصرم، فيندم المسلم عليها ويتمنى لو كان قد اغتنمها، فها هي الآن قريبة منه، يعيش أيامها ولياليها فما عليه إلا الجد والاجتهاد والاستعانة بالله جل وعلا.